فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{يا أيُّها الْمُدّثِّرُ (1) قُمْ فأنْذِرْ (2)}
نوديّ النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه في حالة خاصة تلبس بها حين نزول السورة.
وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال: «دثروني دثروني»، أو قال: «زملوني»، أو قال: «زملوني فدثروني»، على اختلاف الروايات، والجمع بينها ظاهر فدثرته فنزلت: {يا أيها المدثر}.
وقد مضى عند قوله تعالى: {يا أيها المزمل} [المزمل: 1] ما في هذا النداء من التكرمة والتلطف.
و{المدثر}: اسم فاعل من تدثّر، إذا لبس الدِّثار، فأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق كما وقع في فعل ادّعى.
والدِّثار: بكسر الدال: الثوب الذي يُلبس فوق الثوب الذي يُلبس مباشِرا للجسد الذي يسمى شعارا.
وفي الحديث: «الأنصار شِعار والناسُ دِثار».
فالوصف بـ {المدثر} حقيقة، وقيل هو مجاز على معنى: المدثر بالنبوءة، كما يقال: ارتدى بالمجد وتأزّر به على نحو ما قيل في قوله تعالى: {يا أيها المزمل}، أي يا أيها اللابس خلعة النبوءة ودِثارها.
والقيام المأمور به ليس مستعملا في حقيقته لأن النبي لم يكن حين أوحي إليّه بهذا نائما ولا مضطجعا ولا هو مأمور بأن ينهض على قدميه وإنما هو مستعمل في الأمر بالمبادرة والإِقبال والتهمُّم بالإِنذار مجازا أو كناية.
وشاع هذا الاستعمال في فعل القيام حتى صار معنى الشروع في العمل من معاني مادة القيام مسأويا للحقيقة وجاء بهذا المعنى في كثير من كلامهم، وعدّ ابن مالك في التسهيل فعل قام من أفعال الشروع، فاستعمال فعل القيام في معنى الشروع قد يكون كناية عن لازم القيام من العزم والتهمم كما في الآية، قال في (الكشاف): قُم قيام عزم وتصميم.
وقد يراد المعنى الصريح مع المعنى الكنائي نحو قول مُرّة بن محْكان التميمي من شعراء الحماسة:
يا ربّة البيتتِ قُومِي غير صاغرة ** ضُمّي إليككِ رجال الحي والغُربا

فإذا اتصلت بفعل القيام الذي هو بهذا المعنى الاستعمال جملة حصل من مجموعهما معنى الشروع في الفعل بجد وأنشدوا قول حسان بن المنذر:
على ما قام يشتمني لئيم ** كخنزِير تمرّغ في رماد

وقول الشاعر، وهو من شواهد النحو ولم يعرف قائله:
فقام يذود الناس عنها بسيفه ** وقال ألا لا من سبيلٍ إلى هند

وأفادت فاء {فأنذر} تعقيب إفادة التحفز والشروع بالأمر بإيقاع الإِنذار.
ففعل {قم} منزّل منزلة اللازم، وتفريع {فأنذر} عليه يبين المراد من الأمر بالقيام.
والمعنى: يا أيها المدثر من الرعب لرؤية ملك الوحي لا تخف وأقبل على الإِنذار.
والظاهر: أن هذه الآية أول ما نزل في الأمر بالدعوة لأن سورة العلق لم تتضمن أمرا بالدعوة، وصدر سورة المزمل تضمن أنه مسبوق بالدعوة لقوله فيه {إِنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم} [المزمل: 15]، وقوله: {وذرني والمكذبين} [المزمل: 11].
وإنما كان تكذيبهم بعد أن أبلغهم أنه رسول من الله إليهم وابتدئ بالأمر بالإنذار لأن الإنذار يجمع معاني التحذير من فعل شيء لا يليق وعواقبه فالإِنذار حقيق بالتقديم قبل الأمر بمحامد الفعال لأن التخلية مقدمة على التحلية ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأن غالب أحوال الناس يومئذٍ محتاجة إلى الإِنذار والتحذير.
ومفعول {أنذر} محذوف لإِفادة العُموم، أي أنذر الناس كلهم وهم يومئذٍ جميع الناس ما عدا خديجة رضي الله عنها فإنها آمنت فهي جديرة بالبشارة.
{وربّك فكبِّرْ (3)}
انتصب {ربّك} على المفعولية لفعل (كبِّر) قُذم على عامله لإِفادة الاختصاص، أي لا تكبر غيره، وهو قصر إفراد، أي دون الأصنام.
والوأو عطفت جملة {ربّك فكبر} على جملة {قم فأنذر} [المدثر: 2].
ودخلت الفاء على (كبّر) إيذانا بشرطٍ محذوف يكون (كبِّر) جوابه، وهو شرط عام إذ لا دليل على شرط مخصوص وهُيِّئ لِتقدير الشرط بتقديم المفعول.
لأن تقديم المعمول قد ينزل منزلة الشرط كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ففيهما فجاهد» (يعني الأبوين).
فالتقدير: مهمْا يكن شيء فكبّرْ ربّك.
والمعنى: أن لا يفتر عن الإِعلان بتعظيم الله وتوحيده في كُل زمان وكل حال وهذا من الإِيجاز.
وجوز ابن جني أن تكون الفاء زائدة قال: هو كقولك زيدا فاضرب، تُريد: زيدا اضرب.
وتكبير الرب تعظيمه ففعل (كبّر) يفيد معنى نسبة مفعوله إلى أصل مادة اشتقاقه وذلك من معاني صيغة فعّل، أي أخبر عنه بخبر التعظيم، وهو تكبير مجازي بتشبيه الشيء المعظّم بشيء كبير في نوعه بجامع الفضل على غيره في صفات مثله.
فمعنى {وربّك فكبِّر} صِف ربّك بصفات التعظيم، وهذا يشمل تنزيهه عن النقائص فيشمل توحيده بالإلهية وتنزيهه عن الولد، ويشمل وصفه بصفات الكمال كلها.
ومعنى (كبِّر): كبره في اعتقادك: وكبره بقولك تسبيحا وتعليما.
ويشمل هذا المعنى أن يقول: (الله أكبر) لأنه إذا قال هذه الكلمة أفاد وصف الله بأنه أكبر من كل كبير، أي أجلّ وأنزه من كل جليل، ولذلك جعلت هذه الكلمة افتتاحا للصلاة.
وأحسب أن في ذكر التكبير إيماء إلى شرع الصلاة التي أولها التكبير وخاصة اقترانه بقوله: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] فإنه إيماء إلى شرع الطهارة، فلعل ذلك إعداد لشرع الصلاة.
ووقع في رواية معمر عن الزهري عند مسلم أن قال: وذلك قبل أن تفرض الصلاة.
فالظاهر أن الله فرض عليه الصلاة عقب هذه السورة وهي غير الصلوات الخمس فقد ثبت أنه صلى في المسجد الحرام.
{وثِيابك فطهِّرْ (4)}
هو في النظم مثل نظم {وربّك فكبر} [المدثر: 3] أي لا تترك تطهير ثيابك.
وللثياب إطلاق صريح وهو ما يلبسه اللابس، وإطلاق كنائي فيكنى بالثياب عن ذات صاحبها، كقول عنترة:
فشككْت بالرمح الأصم ثيابه

كناية عن طعنه بالرمح.
وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف وإزالة النجاسات وإطلاق مجازي وهو التزكية قال تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33].
والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معا فتحصل أربعةُ معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك.
وقد وردت أحاديث في ذلك يقوّي بعضها بعضا وأقواها ما رواه الترمذي «إِن الله نظيف يحب النظافة».
وقال: هو غريب.
والطهارة لجسده بالأولى.
ومناسبة التطهير بهذا المعنى لأن يعطف على {وربّك فكبر} لأنه لما أمر بالصلاة أُمر بالتطهر لها لأن الطهارة مشروعة للصلاة.
وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلاّ في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه.
والمعنى المركب من الكنائي والمجازي هو الأعلق بإضافة النبوءة عليه.
وفي كلام العرب: فلان نقي الثياب.
وقال غيلان بن سلمة الثقفي:
وإِنِّي بحمد الله لا ثوب فاجر ** لبست ولا من غدرة أتقنّع

وأنشدوا قول أبي كبشة وينسب إلى امرئ القيس:
ثيابُ عوف طهارى نقية ** وأوجُهُهُمْ بيضُ المسافِرِ غُرّان

ودخول الفاء على فعل {فطهر} كما تقدم عند قوله: {وربّك فكبّر} [المدثر: 3].
وتقديم {ثيابك} على فعل (طهِّرْ) للاهتمام به في الأمر بالتطهير.
{والرُّجْز فاهْجُرْ (5)}
{الرجز}: يقال بكسر الراء وضمها وهما لغتان فيه والمعنى واحد عند جمهور أهل اللغة.
وقال أبو العالية والربيع والكسائي: الرّجز بالكسر العذاب والنجاسة والمعصية، وبالضم الوثن.
ويحمل الرجز هنا على ما يشمل الأوثان وغيرها من أكل الميتة والدم.
وتقديم {الرجز} على فعل (اهجر) للاهتمام في مهيع الأمر بتركه.
والقول في {والرجز فاهجر} كالقول في {وربّك فكبّر}.
والهجر: ترك المخالطة وعدم الاقتراب من الشيء.
والهجر هنا كناية عن ترك التلبس بالأحوال الخاصة بأنواع الرجز لكل نوع بما يناسبه في عرف الناس.
والأمر بهجر الرجز يستلزم أن لا يعبد الأصنام وأن ينفي عنها الإلهية.
{ولا تمْنُنْ تسْتكْثِرُ (6)}
مناسبة عطف {ولا تمنن تستكثر} على الأمر بهجر الرجز أن المنّ في العطية كثير من خُلق أهل الشرك فلما أمره الله بهجر الرجز نهاه عن أخلاق أهل الرجز نهيا يقتضي الأمر بالصدقة والإِكثار منها بطريق الكناية فكأنه قال: وتصدق وأُكثر من الصدقة ولا تمنن، أي لا تعدّ ما أعطيته كثيرا فتمسك عن الازدياد فيه، أو تتطرق إليك ندامة على ما أعطيت.
والسين والتاء في قوله: {تستكثر} للعدّ، أي بعد ما أعطيته كثيرا.
وهذا من بديع التأكيد لحصول المأمور به جعلت الصدقة كالحاصلة، أي لأنها من خلقه صلى الله عليه وسلم إذ كان أجود الناس وقد عرف بذلك من قبل رسالته لأن الله هيأه لمكارم الأخلاق فقد قالت له خديجة في حديث بدء الوحي «إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم».
ففي هذه الآية إيماء إلى التصدق، كما كان فيها إيماء إلى الصلاة، ومن عادة القرآن الجمع بين الصلاة والزكاة.
والمنّ: تذكير المنعِم المنعم عليه بإنعامه.
والاستكثار: عدّ الشيء كثيرا، أي لا تستعظم ما تعطيه.
وهذا النهي يفيد تعميم كل استكثار كيفما كان ما يعطيه من الكثرة.
وللأسبقين من المفسرين تفسيرات لمعنى {ولا تمنن تستكثر} ليس شيء منها بمناسب، وقد أنهاها القرطبي إلى أحد عشر.
و{تستكثر} جملة في موضع الحال من ضمير {تمنن} وهي حال مقدرة.
{ولِربِّك فاصْبِرْ (7)}
تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم على تحمل ما يلقاه من أذى المشركين وعلى مشاقّ الدعوة.
والصبر: ثبات النفس وتحملها المشاق والآلام ونحوها.
ومصدر الصبر وما يشتق منه يتضمن معنى التحمّل للشيء الشاقّ.
ويعدّى فعل الصبر إلى اسم الذي يتحمله الصابر بحرف (على)، يقال: صبر على الأذى.
ويتضمن معنى الخضوع للشيء الشاق فيعدى إلى اسم ما يتحمله الصابر باللام.
ومناسبة المقام ترجح إحدى التعديتين، فلا يقال: اصبر على الله، ويقال: اصبر على حكم الله، أو لحكم الله.
فيجوز أن تكون اللام في قوله: {لربّك} لتعدية فعل الصبر على تقدير مضاف، أي اصبر لأمره وتكاليف وحيه كما قال: {واصبر لحكم ربّك فإنك بأعيننا} في سورة الطور (48) وقوله: {فاصبر لحكم ربّك ولا تطع منهم آثما أو كفورا} في سورة الإِنسان (24) فيناسب نداءه بـ {يا أيها المدثر} [المدثر: 1] لأنه تدثر من شدة وقع رؤية الملك، وتركُ ذكر المضاف لتذهب النفس إلى كل ما هو من شأن المضاف إليه مما يتعلق بالمخاطب.
ويجوز أن تكون اللام للتعليل، وحذف متعلق فعل الصبر، أي اصبر لأجل ربّك على كل ما يشق عليك.
وتقديم {لربّك} على (اصبر) للاهتمام بالأمور التي يصبر لأجلها مع الرعاية على الفاصلة، وجعل بعضهم اللام في {لربّك} لام التعليل، أي اصبر على أذاهم لأجله، فيكون في معنى: إنه يصبر توكلا على أن الله يتولى جزاءهم، وهذا مبني على أن سبب نزول السورة ما لحق النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين.
والصبر تقدم عند قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة في} [البقرة: 45].
وفي التعبير عن الله بوصف (ربّك) إيماء إلى أن هذا الصبر برّ بالمولى وطاعة له.
فهذه ست وصايا أوصى الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في مبدإ رسالته وهي من جوامع القرآن أراد الله بها تزكية رسوله وجعلها قدوة لأمته.
{فإِذا نُقِر فِي النّاقُورِ (8)}
الفاء لتسبب هذا الوعيد عن الأمر بالإِنذار في قوله: {فأنذر} [المدثر: 2]، أي فأنذر المنذرين وأنذرهم وقت النقر في الناقور وما يقع يومئذٍ بالذين أُنذروا فأعرضوا عن التذكرة، إذ الفاء يجب أن تكون مرتبطة بالكلام الذي قبلها.
ويجوز أن يكون معطوفا على {فاصبر} [المدثر: 7] بناء على أنه أمر بالصبر على أذى المشركين.
و{الناقور}: البوق الذي ينادى به الجيش ويسمى الصُّور وهو قرن كبير، أو شبهُه ينفخ فيه النافخ لنداء ناس يجتمعون إليه من جيش ونحوه، قال خُفاف بن ندْبة:
إذا ناقورُهم يوما تبدّى ** أجاب الناسُ من غرب وشرق

ووزنه فاعول وهو زنة لما يقع به الفعل من النقْر وهو صوت اللسان مثل الصفير فقوله نُقر، أي صُوِّت، أي صوّت مُصوِّتٌ.
وتقدم ذكر الصور في سورة الحاقة.
و(إذا) اسم زمان أضيف إلى جملة {نقر في الناقور} وهو ظرف وعامله ما دل عليه قوله: {فذلك يومئذٍ يوم عسير} لأنه في قوة فِعْل، أي عسُر الأمرُ على الكافرين.
وفاء {فذلك} لجزاء (إذا) لأن (إذا) يتضمن معنى شرط.
والإِشارة إلى مدلول (إذا نُقر)، أي فذلك الوقت يوم عسير.
و{يومئذٍ} بدل من اسم الإِشارة وقع لبيان اسم الإشارة على نحو ما يبين بالاسم المعرف ب(أل) في نحو{ذلك الكتابُ لا ريب فيه} [البقرة: 2].
ووصف اليوم بالعسير باعتبار ما يحصل فيه من العسر على الحاضرين فيه، فهو وصف مجازي عقلي.
وإنما العسير ما يقع فيه من الأحداث.
و{على الكافرين} متعلق بـ {عسير}.
ووصف اليوم ونحوه من أسماء الزمان بصفات أحداثِه مشهور في كلامهم، قال السموْأل، أو الحارثي:
وأيّامُنا مشهورةٌ في عدوّنا ** لها غُرر معلومة وحُجول

وإنما الغُرر والحجول مستعارة لصفات لقائهم العدوّ في أيامهم، وفي المقامة الثلاثين (لا عقد هذا العقد المبجّل، في هذا اليوم الأغر المُحْجل، إلاّ الذي جال وجاب، وشب في الكُدْية وشاب) وقال تعالى: {فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات} في سورة فصلت (16).
و{غير يسير} تأكيد لمعنى {عسير} بمرادفه.
وهذا من غرائب الاستعمال كما يقال: عاجلا غير آجل، قال طالب بن أبي طالب:
فلْيكُن المغلوب غير الغالِبْ ** وليكن المسلوب غيْر السّالِبْ

وعليه من غير التأكيد قوله تعالى: {قد ضلوا وما كانوا مهتدين} [الأنعام: 140] {قد ضللْتُ إذن وما أنا من المهتدين} [الأنعام: 56].
وأشار الزمخشري إلى أن فائدة هذا التأكيد ما يشعر به لفظ {غير} من المغايرة فيكون تعريضا بأن له حالة أخرى، وهي اليسر، أي على المؤمنين، ليجمع بين وعيد الكافرين وإغاظتهم، وبشارة المؤمنين. اهـ.